بهذا ارتفع القوم!!
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
بهذا ارتفع القوم!!
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد وعلى آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن المتصفح أيها الأفاضل في تراجم سلفنا الصالح، والمتتبع لأخبارهم ليرى فيها الشيء العجاب، و قد يتساءل! عن هؤلاء الأعلام ، كيف بعد فضل العزيز العلام، وصلوا لهذا المقام؟ وصاروا قدوة لأهل الصلاح من الأنام؟!.
إن المتمعن في أحوال هؤلاء الكرام، والناظر في أوقاتهم كيف كانت تُصرف، ليعلم أن وصولهم لهذه المقامات العالية والمكانات الرفيعة لم يكن بعد فضل الله جل وعلا عليهم إلا بمرورهم على جسر التعب والتضحية، وتقديمهم الغالي والنفيس من أجل نصرة هذا الدين.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" إذ المصالح والخيرات وَاللَّذَّات و الكمالات كلهَا لا تُنال إِلَّا بحظ من الْمَشَقَّة ولا يعبر إليها إِلَّا على جسر من التَّعَب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النَّعيم لا يُدْرك بالنعيم، وإن من آثر الرَّاحَة فَاتَتْهُ الرَّاحَة، وإِن بِحَسب ركُوب الْأَهْوَال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة،فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لَذَّة لمن لا صبر له،ولا نعيم لمن لا شقاء لَهُ، ولا راحة لمن لا تَعب له، بل إذا تَعب العَبْد قليلا استراح طَويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قَادَهُ لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النَّعيم الْمُقِيم، فهو صبر ساعة، والها المستعان، ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت النُّفُوس أشرف والهمة أعلا كان تَعب الْبدن أوفر وحظه من الرَّاحَة أقل، كما قال المتنبي:
وَإِذا كَانَت النُّـفُوس كبارًا
تعبت فِي مرادها الْأَجْسَام ". مفتاح دار السعادة (2/15)
إن من أهم الأسباب التي أدت لرفعة شأن القوم وإعلاء ذكرهم بعد توفيق الباري سبحانه لهم أيها الأحباب، إخلاصهم لله جل جلاله في أعمالهم ، وصدقهم مع الله جل وعلا في أعمالهم -فيما نحسبهم و الله حسيبهم- واتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وبعدهم عن البدع و الشبهات.
فقد ذُكر عند الإمام أحمد-رحمه الله- الصدق و الإخلاص فقال:"بهذا ارتفع القوم".طبقات الحنابلة لأبي يعلى (1/61)
أيها الكرام إن الصدق مع الله جل وعلا ليس هو مجرد عبارات يرددها القائل!،ولا شعارات يرفعها المدَّعي!،وإنما تظهر حقيقته في طاعة الله جل جلاله،وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم،قال الله تعالىفلو صدقوا الله لكان خيرا لهم)[محمد :21].
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره....،ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره". الفوائد (ص186)
يقول الإمام أبو زرعة -رحمه الله- :" قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟ فقال لي:" يا أبا زرعة لو جعل الصدق على جرح لبرأ ". تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (5/321)
إن همم هؤلاء القوم أيها الأفاضل لم تُصرف في حطام هذه الدنيا الفانية ،ولا في شهواتها الزائلة، لأنهم عرفوا حقيقتها !! واتبعوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي حذر من الحرص الذي يؤدي بصاحبه للتعلق بالدنيا، والبعد عن الآخرة، حيث قال عليه الصلاة و السلام:"لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يَمْلَأُ جَوْفَ ابن آدَمَ إلا التراب وَيَتُوبُ الله على من تاب".رواه البخاري(6075) ومسلم (1048)واللفظ له،من حديث أنس -رضي الله عنه-.
قال الإمام النووي–رحمه الله-:"فيه ذم الحرص على الدنيا وحب المكاثرة بها والرغبة فيها،ومعنى(لا يملأ جوفه إلا التراب): أنه لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره".الشرح على صحيح مسلم (7/139)
وإنما صرفوا معظم أوقاتهم وعمروا أكثر ساعاتهم، وبذلوا أعلى طاقاتهم في طلب العلم الشرعي النافع ، فهذا الإمام علي بن المديني –رحمه الله- يقول :" قيل للشعبي من أين لك هذا العلم كلُّه؟
فقال –رحمه الله-:" بنفي الاعتماد والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب ".الرحلة في طلب الحديث(ص 196)
ويقول الإمام ابن أبي حاتم -رحمه الله- :"قال سمعت أبى يقول: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادةً على ألف فرسخ، لم أزل أحصى حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته...".الجرح والتعديل ( 1/359)
وهذا الحافظ ابن منده، أبو عبد الله –رحمه الله-، محدث الإسلام، رحل في طلب العلم وعُمُره عشرون سنة، ورجع وعُمُره خمس وستون سنة، وكانت رحلته خمساً وأربعين سنة.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله-:"ولم أعلم أحداً كان أوسع رحلةً منه، ولا أكثر حديثاً منه، مع الحفظ والثقة، فبلغنا أن عدة شيوخه ألف وسبعمائة شيخ". سير أعلام النبلاء (17/30)
وهذا الحرص الشديد من هؤلاء الأعلام على طلب العلم وتحصيله، لا يُستغرب! لأنهم عرفوا أن الله جل جلاله يرفع مكانة صاحبه، ويُعلي درجاته في الدنيا قبل الآخرة،يقول سبحانه يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)[ المجادلة :11].
قال الإمام القرطبي –رحمه الله- :"أي في الثواب في الآخرة، وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم".تفسير القرطبي ( 17/299)
ويقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- :"ولم يعين عز وجل الدرجات لأن هذه الدرجات بحسب ما مع الإنسان من الإيمان والعلم ،كلما قوي الإيمان وكلما كثر العلم وانتفع الإنسان به ونفع غيره،كان أكثر درجات".شرح رياض الصالحين (5/419)
إن القوم –رحمهم الله- لم يقتصروا على طلب العلم فقط! وإنما ترجموا علمهم على واقعهم ، فجمعوا بينه وبين العمل به ، فنرى ثمراته ظاهرة على أحوالهم وأقوالهم ،فكان المثل كذلك يضرب بهم في العبادة والحرص على طاعة الله جل وعلا ، فعن القاسم بن محمد -رحمه الله- قال :"كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟! إن كان يصلي، إنا نصلي!، ولئن كان يصوم، إنا لنصوم! و إن كان يغزو، فإنا لنغزو!، و إن كان يحج إنا لنحج! قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج و خرج يَستصبح، فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك و لحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة ".صفة الصفوة لابن الجوزي( 4/145)
ومع ما كان منهم -رحمهم الله- من شدة الحرص على العلم والعمل والعبادة كان منهم الخوف على أنفسهم أن تُسلبَ منهم هذه النعم، فعن محسن بن موسى-رحمه الله- قال:"كنت عديل سفيان الثوري إلى مكة فرأيته يكثر البكاء، فقلت له:يا أبا عبد الله بكاؤك هذا خوفا من الذنوب؟قال: فأخذ عودا من المحمل فرمى به فقال: إن ذنوبي أهون علي من هذا ولكني أخاف أن أسلب التوحيد". شعب الإيمان للبيهقي(865)
فبعد أن عرفنا أيها الأحباب كيف ارتفع ذكر من سبقنا من الصالحين حتى بعد مماتهم،وأن ذلك لم يكن بالراحة والفتور! وإنما كان بطاعتهم لرب البريات، وحرصهم على الخيرات وبعدهم عن المعاصي و المنكرات،وحرصهم الشديد على اغتنام الأوقات، فعلينا إذا أردنا أن نصل إلى ما وصل إليه القوم!بإذن الله جل وعلا وفضله، أن نبذل الأسباب المعينة على ذلك، كتحقيق العبادة والحرص على اتباع وإحياء سنة خير المرسلين صلى الله عليه وسلم،و الجد والاجتهاد في تحصيل العلم الشرعي النافع وتعمير أوقاتنا بما يعود علينا خيره،وعدم التعلق بالدنيا الفانية،وصرف القلوب للآخرة الباقية.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى و صفاته العليا أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم،وأن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح ولكل أنواع الخيرات،وأن يُبارك لنا في الأوقات ،فهو سبحانه قريب مجيب الدعوات.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي