بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
شهر الخيرات على الأبواب فاستعدوا له أيها الأحباب!!.
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن شهر رمضان أيها الكرام هو شهر الرحمات وموسم الخيرات، فيه يزداد البذل والعطاء و يكثر الجود والسخاء،وقلوب المتقين دائما له تَحن و على فراقه تَئن،كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفرح بقدومه ويزف بُشرى حلوله لأصحابه (رضوان الله عليهم) فيقول صلى الله عليه وسلم:"أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عزّ وجلّ عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الجحيم،وتُغَل فيه مَرَدَةُ الشّياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرم خيرَها فقد حُرم" .رواه النسائي(2106)من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) وصححه الألباني –رحمه الله-
قال الإمام ابن رجب –رحمه الله-:"كيف لا يُبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يُبشّر المذنب بغلق أبواب النيران؟!كيف لا يُبشّر العاقل بوقت يغل فيه الشّياطين؟! من أين يشبه هذا الزمان زمان".لطائف المعارف( ص158)
لكن الناظر في حال الأمة اليوم أيها الأحبة الأفاضل، يجد أنهم ليسوا على قلب رجل واحد في الاستعداد لهذا الشهر العظيم والموسم الكريم، فمنهم ولله الحمد من يفرح بقدوم شهر القرآن والتوبة والغفران، الذي يعتق فيه الرحمن بفضله عبادا له من النيران، فيحيون سنة سيد ولد عدنان عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ويتزودون فيه من أنواع البر و الإحسان، ويحمدون الله جل جلاله على هذه النعمة ويكثرون من الشكران.
ومنهم!! من لبس عليه الشيطان فيترك أو يزهد!! فيما هو فيه مشروع ويجتهد في الممنوع!! فيفعل فيه البدع والمحدثات وغير ذلك من الشبهات !، كالاحتفال بالنصف منه أو ما يسمى في بعض البلدان بـ"القريقعان"! - وتسميتها مأخوذة من قرع الأطفال للأبواب طلبا للحلوى،ولها مظاهر خاصة بها كتحضير أصناف الأكل،ولبس ملابس تراثية ، وتخصيصها بتبادل الهدايا وإقامة المهرجانات،وغير ذلك مما يحدث فيها من المنكرات-مع أن العلماء الأجلاء حذروا من ذلك وبينوا أن ذلك من المحرمات،فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية برئاسة الشيخ ابن باز-رحمه الله- ما نصه: "الاحتفال في ليلة الخامس عشر من رمضان أو في غيرها بمناسبة ما يسمى مهرجان القرقيعان بدعة لا أصل لها في الإسلام (وكل بدعة ضلالة) فيجب تركها والتحذير منها، ولا تجوز إقامتها في أي مكان،لا في المدارس ولا المؤسسات أو غيرها، والمشروع في ليالي رمضان بعد العناية بالفرائض الاجتهاد بالقيام وتلاوة القرآن والدعاء".فتاوى اللجنة الدائمة (2/259)
أو كالاحتفال بذكرى غزوة بدر! في السابع عشر من رمضان من كل عام ، فتقام فيها الاحتفالات في المساجد وفي القاعات العامة، و يتخلل هذه الاحتفالات أناشيد زعموا أنها إسلامية! وكذلك تكريم بعض الحضور و إلقاء الخطب والمحاضرات عن غزوة بدر، مع أن تخصيص هذه الليلة بالاجتماع والذكر وإلقاء القصائد بدعة ، يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- : فلا يحتفل بذكرى غزوة بدر ولا غيرها من الغزوات العظيمة،سواء كانت هذه الانتصارات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده ". مجموع الفتاوى ( 16/191)
أو تخصيص ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان على أنها ليلة القدر باحتفالات أو بكثرة تلاوة القرآن ، والاجتماع في المساجد وتوزيع الجوائز وغير ذلك مما يحدثونه .
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحتفل بها ولا أصحابه (رضوان الله عليهم)ولا القرون المفضلة احتفلوا بها، بل كانوا يتحرونها في الليالي الأوتار من العشر الأخيرة من رمضان ، فيكثرون فيها الصلاة والدعاء وقراءة القرآن.
وهؤلاء!! أحب إلى الشيطان من أهل العصيان!، يقول سفيان الثوري–رحمه الله-:"البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية ، المعصية يتاب منها و البدعة لا يتاب منها". شرح السنة للبغوي ( 1/216)
ومنهم!، من يجعله فرصة لإحياء لياليه بالسهرات وحضور الحفلات وشهود المهرجانات التي فيها مضيعة للأوقات، والغالب أنها لا تخلوا من المنكرات،وهو عندهم شهر التنعم بما لذ وطاب من المأكولات و المشروبات .
ومنهم!! من لا يفرح أصلا بقدومه! لأنه قد يمنعهم من بعض التجارات!والتمتع في نهاره بالشهوات! ويحجبهم عما تعودوا عليه من السفرات!، فيتمنون أن يتخلصوا منه في أقرب الأوقات! نسأل العفو والعافية من رب البريات.
فشتان والله بين هؤلاء !!!.
أيها الأحبة الأفاضل إن الله جل جلاله إذا أكرمنا هذه السنة بإدراك شهر رمضان- ونسأله سبحانه ذلك-، فإن علينا أن نقابل ذلك بالشكر والتقوى،لأن النعم تزداد بإذن الرحمن بالشكر والإيمان،وتزول وتتحول إلى نقم بالجحود والعصيان،قال تعالىوإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)[إبراهيم :7]
قال الشيخ الشنقيطي-رحمه الله-:"وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفراداً وجماعات،أن يقابلوا نعم الله بالشكر،وأن يشكروها بالطاعة والعبادة للَّه،وأن يحذروا كفران النعم".أضواء البيان (9/112)
وشكرنا للباري جل وعلا ينبغي أن لا يكون فقط باللسان! كما هو حال الكثير منا!، بل لابد أن يكون كذلك بالقلب والأركان، وذلك بتطهير قلوبنا من كل الآفات وألسنتنا وجوارحنا من كل المنكرات، ونسعى في فعل الطاعات و التزود من الخيرات، وأن نعزم على التوبة الصادقة من كل الذنوب السابقة.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"وكذلك حقيقته في العبودية وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا وعلى قلبه: شهودا ومحبة وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة، والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له،واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها،وأن لا يستعملها فيما يكره. فهذه الخمس هي أساس الشكر وبناؤه عليها،فمتى عدم منها واحدة اختل من قواعد الشكر قاعدة،وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور".مدارج السالكين (2/244)
إن الصائم أيها الكرام ينبغي أن يظهر عليه ثمرة الصيام والقيام وهي تقوى العزيز العلام،قال تعالىيا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)[البقرة:183 ]
قال الشيخ السعدي –رحمه الله-:" فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه متقربا بذلك إلى الله راجيا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها : أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها:أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم فبالصيام يضعف نفوذه وتقل منه المعاصي،ومنها:أن الصائم في الغالب تكثر طاعته،والطاعات من خصال التقوى، ومنها:أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى".تفسير السعدي (ص86)
إن الصيام الشرعي الذي تقطف منه ثمرة التقوى أيها الأحبة له تأثير على باطن الصائم وظاهره، فنراه طائعا لأوامر الله جل جلاله ساعيا في تحقيقها مبتعدا عن نواهيه سبحانه حريصا على اجتنابها،يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- : "وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها،و استفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات فهو من أكبر العون على التقوى".زاد المعاد (2/29)
لكن الكثير منا أيها الأفاضل – إلا من رحم الله- يمتنع عن الأكل و الشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس سواء كان ذلك في صيام الفرض أو النفل،لكننا لا بد أن نسأل أنفسنا! هل حققنا الغاية المرجوة من الصيام ألا وهي:"تقوى الله جلّ وعلا "؟!، هل حبسنا ألسنتنا عن التحدث في أعراض الناس؟!، هل صُنَّا أسماعنا و حمينا أبصارنا عن الحرام؟!، والله المستعان .
قال جابر – رضي الله عنه- :" إذا صُمتَ فليَصُم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليَكُن عليك وقار وسكينة يوم صومك،ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء".مصنف ابن أبي شيبة(2/271)
قال عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-:"ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ،ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله،وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا،فهو خير إلى خير".تاريخ دمشق لابن عساكر( 45/230)
أيها الأفاضل ينبغي أن نعلم أنه إذا لم تترتب آثار التقوى على الصائم، فإن صيامه يعتبر ناقصا ، ولا يقال: أنه باطل ، فهو صحيح، ولا يؤمر بإعادته، لكنه يؤجر على صيامه بقدر ما حقق من التقوى، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه البخاري(1804)
قال ابن بطال–رحمه الله-:" قال المهلب:فيه دليل أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور ،كما يمسك عن الطعام والشراب ، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه" .شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/23)
وقال ابن المنير -رحمه الله-:" هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئا طلبه منه فلم يقم به لا حاجة لي بكذا فالمراد رد الصوم المتلبس بالزور وقبول السالم منه ".فتح الباري(4/117)
وقال صلى الله عليه وسلم :"رب صائم ليس من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ". رواه ابن ماجة (1690)من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-، وصححه العلامة الألباني –رحمه الله- .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية–رحمه الله-:"فان قول الزور والعمل به في الصيام أوجب إثما يقابل ثواب الصوم وقد اشتمل الصوم على الامتثال المأمور به والعمل المنهي عنه فبرئت الذمة للامتثال ووقع الحرمان للمعصية ".مجموع الفتاوى (19/303)
فالله الله أيها الأحباب في اغتنام هذا الشهر الذي هو على الأبواب فيما يرضي العزيز الوهاب،والسعي فيه دائما لعمل الصواب وطاعة التواب، ولنحذر أشد الحذر ونحذر الناس من كل الملهيات التي تمنع عن الطاعات وتجر إلى المحرمات، وخاصة من بعض وسائل الإعلام المرئية! التي لا تتقي الله في المسلمين ولا تراعي عظمة هذا الشهر الجليل،وتسعى دائما جاهدة لإفسادهم، وذلك بنشر كل رذيلة والمنع من كل فضيلة حتى في شهر رمضان - ولا حول ولا وقوة إلا بالله- ، وذلك ببث الأفلام والمسلسلات الهابطة والبرامج والحفلات والأغاني الساقطة، وإشغال الصائمين عن قراءة القرآن و عبادة الرحمن ،والله المستعان.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لإدراك هذا الشهر العظيم، ويجعلنا فيه ممن يحرص على التزود من الخيرات وفعل الطاعات التي تقوي الإيمان و تكون بعون المنان سببا للعتق من النيران، وأن يحفظ جل جلاله المسلمين دائما وفيه من كيد الأشرار ومكر الفجار، فهو سبحانه ولي ذلك والعظيم الجبار.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي