هذه قصة رائعة قرأتها للشيخ عائض القرني جزاه الله خيرا
نفعنا الله وإياكم بها
خرج علي بن المأمون -ابن الخليفة العباسي المأمون - من قصره على شرفة القصر، فأشرف من شرفات القصر -البروج العاجية- ذات يوم ينظر إلى سوق بغداد .. طعامه شهي، ومركبه وطي، وعيشه هنيء، يلبس ما جمل، ويأكل ما طاب، ما جاع يوماً في حياته، وما ظمئ أبداً، وما مست الشمس جبهته، فأخذ ينظر من القصر إلى الناس في السوق، هذا يذهب وهذا يأتي، ولفت نظر الأمير رجل حمال، يعمل للناس بالأجرة، ويظهر على هذا الحمال الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحِمْل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان، فأخذ يتابع حركاته في السوق، فكان الحمال إذا انتصف الضحى ترك السوق، وخرج منه إلى ضفاف دجلة ، فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم:
سبحـان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الـذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
سبحان الذي اتصل به الفقراء والمساكين!
سبحان من التجأ إليه المظلومون والمضطهدون!
سبحان من عرفه البسطاء، وحجب كثير من الأغنياء والوجهاء!
عرفه الذي في الخيمة، وعلى الرصيف وبيده كسرة الخبز، ولم يعرفه الذي في القصر الشاهق، والمنصب العالي، والمنزلة الرفيعة.
فأخذ الأمير ينظر إلى هذا، فإذا صلى الحمَّال الضحى، عاد فعمل إلى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة ، فيأتي إلى النهر، فيبل كسرة الخبز في الماء، ويشرب من الماء، ويأكل الخبزة، فإذا انتهى توضأ لصلاة الظهر وصلى، ثم دعا وابتهل وبكى، ونادى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم يستيقظ وينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته، وفي اليوم الثاني يعود إلى هذا البرنامج والجدول ولا يتغير عنه.. وكذلك في اليوم الثالث والرابع.. إلى أيام كثيرة، فأرسل الأمير جندياً من جنوده إلى ذاك الحمال ليستدعيه وليكلمه في القصر، فذهب الجندي واستدعى الحمَّال.
قال للجندي: ومالي وملوك بني العباس؟ مالي وللخلفاء؟ ليس بيني وبين الأمراء من صلة، ليس لي قضية ولا مشكلة ولا مهمة، إن أشكل علي شيء رفعته إلى الحي القيوم، وإن نابني شيء أعدته إلى الله الواحد الأحد، وإن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت أرواني الله، ما عندي لا دار ولا عقار ولا أرض، أنا بالله وبالله أنا.
قال الجندي: أمر الأمير أن تحضر إليه اليوم فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذه الكلمة هي سلاح الفقراء، والمضطهدين والمظلومين، وسلاح المساكين، لكنها تكسِّر رءوس الطغاة، وتحطِّم الحواجز الحديدية، وتسحب القلاع.
أتي بإبراهيم عليه السلام والنار محرقة، فزجوا به في النار، فأخرج سلاحه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمةٍ مِنَ الله وفضل.
موسى عليه السلام خرج هو وقومه فإذا البحر أمامه، والموت وراءه، فأخرج سلاحه، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فَنَجَّاه الله.
حضر محمد صلى الله عليه وسلم حضر بدراً ، وأحداً ، والأحزاب، وتبوك وأمثالها وأضرابها في قلة، فرأى الكفر يزدحم، فأخرج سلاحه وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فانتصر.
أتى خالد بن الوليد في اليرموك فرأى جيوش الروم كالجبال! والصحابة في فئة قليلة، يقول أحد الصحابة لـخالد : اليوم نلتجئ إلى سلمى وآجا -أي: يقول: سوف نفر اليوم من هذا الحشد الكبير إلى سلمى وآجا - وهي جبال في حائل ، فدمعت عينا خالد ، وقال: [[بل إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل! ]] فانتصر.
وسعد رأى فارس ورأى الكفر والعمالة والجهالة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فداس رءوسهم بأقدامه
، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
وفي ليلة من الليالي استفاق الأمير من غيبوبته، وصحا من نومه، وعلم أنه كان في سبات عميق، وفي نوم طويل، وأن داعي الله يدعوه ليتنبه...
تنبهوا يا رقودُ إلى متى ذا الجمود ُ
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيدُ
الخير فيها قليل والشر فيها عتيدُ
والعمر ينقص فيها والسيئات تزيدُ
فاستكثروا الزاد فيها إن الطريق بعيدُ
فاستيقظ الليل، وقال لحاشيته وخدامه: أنا أذهب إلى مكان، فإذا أتى بعد ثلاثة أيام، فأخبروا أبي الخليفة المأمون أني ذهبت، وسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر...
إن كان قد عزَّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
قالوا: ولم؟! قال: نظرت إلى نفسي أنني في غيبوبة وسبات، وفي ضياع وضلال، فأريد أن أهاجر بروحي إلى الله، خرج وسط الليل وخلع لباس الملك، ولبس لباس الفقير، ثم مشى في الطرقات، واختفى عن العيون.
لم يعلم الخليفة ولا أهل بغداد أين ذهب الأمير، وعهد الحشم والخدم به يوم ترك القصر، ركب إلى واسط كما يقول أهل التاريخ، وغيَّر هيئته كهيئة المساكين، وعمل مع تاجر من التجار في صنع الآجر -البلاط والطين والبناء- وأخذ يعمل في ذلك، يصلي الضحى، وله أوراد في الصباح، ويحفظ القرآن، ويصوم الإثنين والخميس، ويقوم الليل، ويتصل بالحي القيوم، ما عنده من المال ما يكفيه ليوم واحد، ذهب غمه وهمه، وحزنه، وذهب العُجْبُ والكِبْرُ والخُيَلاء من قلبه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
ولما أتته الوفاة أعطى التاجر خاتمه، وقال: أنا ابن الخليفة المأمون ، إذا مت فغسلني وكفني واقبرني، ثم سلم هذا الخاتم لأبي، فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه، وأتى بالخاتم إلى المأمون ، وظن المأمون ، أن ابنه قد قُتل أو فقد أو ذهب على وجهه في مكان لا يدرى عنه، فلما رأى الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته، فسأل التاجر عنه، قال: أيها التاجر: هذا هو ابني فماذا كان يفعل؟ قال: كان عابداً ناسكاً أواباً ذاكراً لله، يلجأ إلى الله، ما ترك من الدنيا إلا قيمة الكفن، وقد لقي الله وغسلته وكفنته وصليت عليه، فارتفع صوت الخليفة والوزراء بالبكاء، وعرفوا أنه عرف الطريق، لكنهم ما مشوا معه في الطريق " فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ " [الأنعام:125].
نفعنا الله وإياكم بها
خرج علي بن المأمون -ابن الخليفة العباسي المأمون - من قصره على شرفة القصر، فأشرف من شرفات القصر -البروج العاجية- ذات يوم ينظر إلى سوق بغداد .. طعامه شهي، ومركبه وطي، وعيشه هنيء، يلبس ما جمل، ويأكل ما طاب، ما جاع يوماً في حياته، وما ظمئ أبداً، وما مست الشمس جبهته، فأخذ ينظر من القصر إلى الناس في السوق، هذا يذهب وهذا يأتي، ولفت نظر الأمير رجل حمال، يعمل للناس بالأجرة، ويظهر على هذا الحمال الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحِمْل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان، فأخذ يتابع حركاته في السوق، فكان الحمال إذا انتصف الضحى ترك السوق، وخرج منه إلى ضفاف دجلة ، فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم:
سبحـان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الـذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
سبحان الذي اتصل به الفقراء والمساكين!
سبحان من التجأ إليه المظلومون والمضطهدون!
سبحان من عرفه البسطاء، وحجب كثير من الأغنياء والوجهاء!
عرفه الذي في الخيمة، وعلى الرصيف وبيده كسرة الخبز، ولم يعرفه الذي في القصر الشاهق، والمنصب العالي، والمنزلة الرفيعة.
فأخذ الأمير ينظر إلى هذا، فإذا صلى الحمَّال الضحى، عاد فعمل إلى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة ، فيأتي إلى النهر، فيبل كسرة الخبز في الماء، ويشرب من الماء، ويأكل الخبزة، فإذا انتهى توضأ لصلاة الظهر وصلى، ثم دعا وابتهل وبكى، ونادى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم يستيقظ وينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته، وفي اليوم الثاني يعود إلى هذا البرنامج والجدول ولا يتغير عنه.. وكذلك في اليوم الثالث والرابع.. إلى أيام كثيرة، فأرسل الأمير جندياً من جنوده إلى ذاك الحمال ليستدعيه وليكلمه في القصر، فذهب الجندي واستدعى الحمَّال.
قال للجندي: ومالي وملوك بني العباس؟ مالي وللخلفاء؟ ليس بيني وبين الأمراء من صلة، ليس لي قضية ولا مشكلة ولا مهمة، إن أشكل علي شيء رفعته إلى الحي القيوم، وإن نابني شيء أعدته إلى الله الواحد الأحد، وإن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت أرواني الله، ما عندي لا دار ولا عقار ولا أرض، أنا بالله وبالله أنا.
قال الجندي: أمر الأمير أن تحضر إليه اليوم فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذه الكلمة هي سلاح الفقراء، والمضطهدين والمظلومين، وسلاح المساكين، لكنها تكسِّر رءوس الطغاة، وتحطِّم الحواجز الحديدية، وتسحب القلاع.
أتي بإبراهيم عليه السلام والنار محرقة، فزجوا به في النار، فأخرج سلاحه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمةٍ مِنَ الله وفضل.
موسى عليه السلام خرج هو وقومه فإذا البحر أمامه، والموت وراءه، فأخرج سلاحه، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فَنَجَّاه الله.
حضر محمد صلى الله عليه وسلم حضر بدراً ، وأحداً ، والأحزاب، وتبوك وأمثالها وأضرابها في قلة، فرأى الكفر يزدحم، فأخرج سلاحه وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فانتصر.
أتى خالد بن الوليد في اليرموك فرأى جيوش الروم كالجبال! والصحابة في فئة قليلة، يقول أحد الصحابة لـخالد : اليوم نلتجئ إلى سلمى وآجا -أي: يقول: سوف نفر اليوم من هذا الحشد الكبير إلى سلمى وآجا - وهي جبال في حائل ، فدمعت عينا خالد ، وقال: [[بل إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل! ]] فانتصر.
وسعد رأى فارس ورأى الكفر والعمالة والجهالة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فداس رءوسهم بأقدامه
، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
وفي ليلة من الليالي استفاق الأمير من غيبوبته، وصحا من نومه، وعلم أنه كان في سبات عميق، وفي نوم طويل، وأن داعي الله يدعوه ليتنبه...
تنبهوا يا رقودُ إلى متى ذا الجمود ُ
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيدُ
الخير فيها قليل والشر فيها عتيدُ
والعمر ينقص فيها والسيئات تزيدُ
فاستكثروا الزاد فيها إن الطريق بعيدُ
فاستيقظ الليل، وقال لحاشيته وخدامه: أنا أذهب إلى مكان، فإذا أتى بعد ثلاثة أيام، فأخبروا أبي الخليفة المأمون أني ذهبت، وسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر...
إن كان قد عزَّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
قالوا: ولم؟! قال: نظرت إلى نفسي أنني في غيبوبة وسبات، وفي ضياع وضلال، فأريد أن أهاجر بروحي إلى الله، خرج وسط الليل وخلع لباس الملك، ولبس لباس الفقير، ثم مشى في الطرقات، واختفى عن العيون.
لم يعلم الخليفة ولا أهل بغداد أين ذهب الأمير، وعهد الحشم والخدم به يوم ترك القصر، ركب إلى واسط كما يقول أهل التاريخ، وغيَّر هيئته كهيئة المساكين، وعمل مع تاجر من التجار في صنع الآجر -البلاط والطين والبناء- وأخذ يعمل في ذلك، يصلي الضحى، وله أوراد في الصباح، ويحفظ القرآن، ويصوم الإثنين والخميس، ويقوم الليل، ويتصل بالحي القيوم، ما عنده من المال ما يكفيه ليوم واحد، ذهب غمه وهمه، وحزنه، وذهب العُجْبُ والكِبْرُ والخُيَلاء من قلبه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
ولما أتته الوفاة أعطى التاجر خاتمه، وقال: أنا ابن الخليفة المأمون ، إذا مت فغسلني وكفني واقبرني، ثم سلم هذا الخاتم لأبي، فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه، وأتى بالخاتم إلى المأمون ، وظن المأمون ، أن ابنه قد قُتل أو فقد أو ذهب على وجهه في مكان لا يدرى عنه، فلما رأى الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته، فسأل التاجر عنه، قال: أيها التاجر: هذا هو ابني فماذا كان يفعل؟ قال: كان عابداً ناسكاً أواباً ذاكراً لله، يلجأ إلى الله، ما ترك من الدنيا إلا قيمة الكفن، وقد لقي الله وغسلته وكفنته وصليت عليه، فارتفع صوت الخليفة والوزراء بالبكاء، وعرفوا أنه عرف الطريق، لكنهم ما مشوا معه في الطريق " فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ " [الأنعام:125].